المعوق في القرآن الكريم:
الإسلام هو الدين الشامل؛ لم يغفل حقًا ولم يفرط في أمر من أمور الحياة. والمعوق كجزء من هذه الحياة ذكر القرآن الكريم حقوقه وحث على الاهتمام به في غير موضع، نذكر منها سورة عبس وما جاء فيها من عتاب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتم بالرجل السوي الجسم صاحب الجاه والمال رغبة في إسلامه، وأعرض حتى لو كان بغير قصد عن ذلك الكفيف عبد الله بن أم مكتوم فلننظر إلى القرآن وحثه على الاهتمام بالناس دون تفريق في النواحي الجسمية وإنما بالنظر إلى أنفسهم. بسم الله الرحمن الرحيم(عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ).
فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحدًا بل يساوي بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
إن الإسلام قبل أربعة عشر قرنا ضرب لنا درسًا ومثالا في رعاية المعوقين والالتزام بحقوقهم وأهمها حرية الرأي وممارستهم التعبير عما يجيش في صدورهم ففي هذه الآيات الكريمة من سورة (عبس) عاتب رب الخلق صفوة خلقة محمداً صلى الله عليه وسلم عندما أعرض عن الصحابي الكفيف وظل رسول الله الكريم عليه الصلاة والسلام يداعبه طيلة عمره كلما رآه قائلا (أهلا بمن عاتبني فيه ربي).
كما اهتم القرآن بموضوع دمج المعوقين في المجتمع قبل 14 قرنًا من الزمان وهي فكرة يعتبرها بعض المهتمين برعاية المعوقين من الأمور ذات الأهمية الكبيرة في هذه الأيام وهي تعبر عن مدى اتساع أفق الإنسانية في العناية بالمعوقين مع أن الإسلام سبقهم بقرون، فقال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). [سورة النور: الآية 61].
العجزة والضعفاء في السنة النبوية:
إن الإسلام دين شامل عادل مساو بين الناس، جعل المقياس الذي يفاضل الناس به مقياسًا معنويًا وليس ماديًا، لأن منزل الإسلام عالم بأحوال عباده؛ فمنهم العاجز ومنهم الأعمى ومنهم المشلول ومنهم الأصم والأبكم فترفع عن صورة الجسم في النظر إلى أحوالهم ونظر إلي حال القلب، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم. من هذا الحديث تنطلق فكرة أن يحصل المعوق على جميع الحقوق التي يحصل عليه السوي من دمج في المجتمع، من تأهيل وتشغيل، من رعاية واهتمام، من احترام وإعطاء جميع الفرص للظهور على ساحة المجتمع كفرد له احترامه وقدره، ونظر إليه الدين الذي شمل الجميع كما نظر إلى الآخرين لم يستثنه ولم ينسه. والسيرة النبوية الشريفة تحفل بصور رعاية المعوقين واستهدف تشريع الزكاة تلك الشريحة من البشر التي ابتليت بالعوق وآيات الزكاة هي آيات آمرة وواجبة حيث بعد مانعها مرتدا عن الإسلام. قال تعالى ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( (الذاريات : الآية 19) بل إن محمدا صلى الله عليه وسلم شدد على رعاية الإسلام لكل الفئات بحيث لا تطغى فئة على فئة فقال صلى الله عليه وسلم (لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ). والقرآن الكريم والسنة المطهرة يحملان السلوى والعلاج النفسي للمعوقين حماية لهم من اليأس وتحفيزاً لهم بالصبر والتوكل على الله فيقول جل شأنه ) وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور( (آل عمران : الآية 186) ومعناه أن الصبر والتقوى من الأمور العظام التي يجب العزم عليها والحزم فيها … ثم قوله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان). فمكافحة اليأس وإذكاء روح العزم والإدارة في نفوس المعوقين أمر يحبذه الإسلام وينادي به وقال تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف : الآية 87]. وقد تجلى التيسير التشريعي والنظر إلى العجز الذي قد يعاني منه بعض الناس في أم العبادات الصلاة فيها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب وإلا فأومئ إيماء). وقال الله تعالى في كتابه الكريم : (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) [النور: الآية 61].
وإذا كانت الإعاقة عقلية نجد أن الله يشرع الحجر، حيث يمنع من لا عقل له أن يتصرف في ماله حتى لا يعود عليه بالتلف، وتجاوز الأمر إلى النظر إلى الحالة النفسية، فدعت الشريعة المعوق أن يصبر على الإعاقة التي ابتلى بها، ووعد المعوق إن هو صبر بالأجر العظيم والثواب الجزيل الذي قد يصل به إلى أن يفوز بالجنة، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال ” (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه (يعني عينيه) فصبر عوضته عنهما الجنة).
العجزة في عهد الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين:
اتبع الخلفاء أبو بكر وعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم نهج الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم. فمنح عمر بن الخطاب المعوزين حقا في بيت المال وقرر نفقة الأسرة التي ترعى رضيعا أو لقيطا، وضرب الوليد بن عبد الملك مثلا عاليا للراعي المسئول فرتب كفالة للأيتام وأعطى كل قعيد خلفا وكل ضرير. وتأخذ الطفولة ورعاية المعوقين درجة عالية من الاهتمام، فبادر الفاروق عمر بن الخطاب بسن القوانين التي تحمي الطفولة والإعاقة حيث سن تشريعات بموجبها قام بإنشاء ديوان للطفولة والمستضعفين، وذلك من أجل حمايتهم ماديًا واجتماعيًا.
فالنظرة الإسلامية نحو المعوق تقوم على أسس منها:
1- حفظ كرامته.
2- أن له حقوق وعليه واجبات.
3- المساواة بينه وبين أفراد المجتمع.
ونجد أن المجتمع الإسلامي قد أقام العديد من المؤسسات الاجتماعية التي كانت تعني برعاية المعوقين ومنها:
(1) البيمارستانات: وهي عبارة عن مستشفيات علاجية، أنشئت في العديد من المناطق والمدن الإسلامية آنذاك كما هو الحال في دمشق والعراق وغيرها.
(2) ملاجئ كبار السن والمكفوفين: وهي عبارة عن أماكن يتم فيها العناية بكبار السن والعاجزين والمكفوفين، حيث كانت تصرف لهذه الملاجئ أموالا خصصت في خزينة الدولة، ونجد أن معظم المؤرخين يذكرون أن أول من قام بإنشاء مثل هذه المؤسسات وجمع المقعدين والعاجزين والمكفوفين هو الوليد بن عبد الملك. كما أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز خصص غلامًا لكل قعيدين يخدمهما ولكل أعمى غلامًا يقوده.
حفظ الاعتبار الأدبي للمعوقين:
الاعتبار الأدبي للمعوقين موفور في الإسلام ومن خلال قواعده العامة الشاملة، ومن جراء مبادئ أخرى تخصهم بالذكر، أما الناحية الأولى فإن ما أمر به الإسلام من انزال الناس منازلهم تبعا لما يتصفون به من تقوى واتقان، هو مفاد قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. وهو المعبر عنه بالحكمة المشهورة (قيمة الإنسان بما يتقنه).
وقد حرم الإسلام كل ما يخل بتكريم الإنسان الذي جعله مكرما في آدميته وكان مما جعله من المحرمات الكبائر: السخرية والاستهزاء والهمز بأي وسيلة كان ذلك. وقد كان النص القرآني صريحا في هذا “لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب” ومن هنا امتنع مناداة من فيه حالة معوقة بوصفه بها إلا حيث أصبح شهرة ملازمة للتعريف به، كالأعمش والأصم…
وقد التزمت المجتمعات الإسلامية بهذه التوجيهات الكريمة إلا ما كان من استهواء شيطان الشعر بعض الهجائين ممن هم في كل وادٍ يهيمون حيث لم يزعجهم وزاع الدين أو الخلق أو الرفق عن اتخاذ بعض الصفات الجسدية مادة للهجاء وأمثلة ذلك معروفة في كتب الأدب ولا تستحق الذكر…
لكن هذه الظروف المادية الصرف يقابلها نظرة عقلية نافذة للأعماق للتعويل على الجوهر (القلب، واللسان) لا العرض والمظاهر الخارجية.
من ذلك ما يروي أنس بن مالك أنه مر رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من الحاضرين: يا رسول الله، هذا مجنون، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل: فقال: أقلت مجنون؟ إنما المجنون المقيم على المعصية ولكن هذا مصاب. ويروى أن عيسى عليه السلام قال: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني. ومما روي عن الأحنف بن قيس (وكان فيه عدة عاهات برغم منزلته في قومه وكريم خصاله) إنه قال له رجل معرضا به: “إن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه” فقال الأحنف –على ما عهد فيه من حلم- ما ذممت مني يا بن أخي؟ قال: الدمام وقصر القامة، فقال الأحنف لقد عبت علي ما لم أؤمر فيه، أي لم يؤخذ فيه رأيي.