قال الأب ستيفانو: ثم ماذا علّم محمد الناسَ في مدرسته من أبواب الرحمة؟
قلت: لقد علّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس في مدرسته الرحمةَ بالضعفاء والمساكين والفقراء وذوي الحاجات والمرضى وأصحاب البلاء. ولو رحتُ أستعرض لك ما ورد عنه في هذا، لضاق بنا الوقت، لكن أحدثك بما يشفي غلتك.. وأوَّله حديثٌ لا يقرؤه مسكين أو فقير أو ضعيف إلا حمد الله سبحانه على ما هو فيه.
قال: ما هو؟
قلت: قال (صلى الله عليه وسلم) داعياً ربه: «اللهم أحييني مسكيناً وأمِتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين»[2]. فمن لا يغتبط بالتشبّه برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحبته يوم القيامة؟!
وأردفت: ومِن هذا المنطلق انطلق (صلى الله عليه وسلم) في رحلته مع الضعفاء والمساكين.. منذ بداية بعثته. فقد كان هؤلاء هم الدعامة الأولى في الدعوة الإسلامية، وكانوا من أوائل من آمن بها واحتضنها.. فكان (صلى الله عليه وسلم) يجلس إليهم، ويقربهم إليه.. حتى نقم عليه المشركون من سادة قومه، لاختياره هؤلاء عليهم! فقد روى عبد الله بن مسعود قال: « مَرَّ الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعنده صهيب وبلال وعمّار وخبّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين.. فقالوا يا محمد؛ اطردهم، أَرَضيتَ هؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟! أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟! فلعلك إن تطردهم أن نأتيك. قال: فنـزلت: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[
وهكذا سارت رحمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بالضعفاء والمساكين.. لقد أوصاه ربه سبحانه بهم، فهو لن ينسى هذه الوَصاة.. لقد اختارهم على المستكبرين من مشركي قومه، وعقد مقارنة بين الفئتين فقال: «ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جوَّاظٍ مستكبر»[5].
قال الأب ستيفانو: ومن لا يحب أن يكون ضعيفاً مسكيناً بعد هذا؟!.
قلت: ولم تفتر صحبته (صلى الله عليه وسلم) معهم، بل كانت تزداد مع الأيام.. وطالما رآه الناس يسير مع المسكين، أو مع العبد، أو مع الأرملة، أو مع أيٍّ من الضعفاء.. يسمع منهم، ويخفف عنهم، ويقضي حوائجهم. فقد حدَّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد، حتى يقضي له حاجته»[6].
* * *
وأردفت: وكان (صلى الله عليه وسلم) يدعو المسلمين إلى الرأفة والرحمة بهم، وتقديم يد العون والمساعدة لهم، ومَن فَعَل.. فإنما ينتظره الجزاء الأوفى الذي لا يفوز به إلا المقرَّبون المقرَّبون عند الله.. فقد روي عنه أنه قال: « الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار »[7].
وكيف لا يكون ثواب مَن رحم هؤلاء، وقدّم يد العون لهم، أجزل الثواب، وهم خير عباد الله؟! فقد روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «ألا أخبركم بخير عباد الله، الضعيف المستضعف ذو الطمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرَّه»[8].
* * *
وأردفت: وكان (صلى الله عليه وسلم) دائم المراعاة لحال الضعفاء والرفق بهم، حتى في شؤون العبادة، فقد روى عنه أبو سعيد الخدري قال: «صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة العتمة فلم يخرج إلينا حتى مضى نحوٌ من شطر الليل. فقال: خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا. فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسَقَم السقيم – وفي رواية: وحاجة ذي الحاجة – لأخّرت هذه الصلاة إلى شطر الليل»[9].
وروي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن في الناس الضعيفَ والسقيمَ وذا الحاجة»[10].
وقال: «من أَمّ قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلّى أحدكم وحده فليصلِّ كيف شاء»[11].
* * *
وأردفت: ثم كان (صلى الله عليه وسلم) يوصي الأقوياء من الناس بالضعفاء منهم. فقد روي عنه أنه قال لعمر بن الخطاب: «يا عمر، إنك رجل قوي، فلا تُؤذِ الضعيف»[12].
وكان يراعي ذلك هو بنفسه، فقد حدَّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتخلف في المسير، فيُزجي الضعفاء، ويُردف، ويدعو لهم»[13].
بل هو كان يبحث عن الضعفاء ليضمهم إليه ويقربهم منه، ويرغِّب الناس بذلك حتى تعمَّ الرحمة بهم. فقد روي عنه أنه قال: «ابغوني الضعيف، فإنكم إنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم»[14].
ولهذا كان (صلى الله عليه وسلم) دائم المشاركة للضعفاء في مناسباتهم.. ليعطي القدوة للناس من نفسه. حدّث بعض أصحابه قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم»[15].
* * *
وأردفت: ولم تقتصر وَصاته (صلى الله عليه وسلم) برحمة الضعفاء على الصعيد الفردي فقط، بل هو أراد أن تعمَّ الرحمة بهم جميع الأمة عندما قال: «لا قُدِّست أمّة لا يعطى الضعيفُ فيها حقه غير مُتَعْتَع»[16].
فقال الأب ستيفانو: أين منا هذا، اليومَ؟! ومَن يعطي الضعيف حقه غير متعتع؟!
قلت: المحاكم تعطيه حقه غير متعتع، فأبوابها مُشْرَعة لأصحاب الحقوق.
قال: وكيف يصل الضعيف إلى المحاكم، ودونها أجور المحامين، وأجور المعاملات، ورسوم البلديات، ورسوم العقارات… إنه لن يصل إلى حقه إلا بعد أن يكون قد دفع أكثر من قيمته!!
قلت: وأين يكمن العيب؟
قال: العيب يكمن في نُظُم القضاء السائدة في هذه الأيام.. فهي نُظُم لا يُفيد منها إلا الأقوياء الأغنياء.
قلت: وما الحل؟
قال: لو كان لي صوتٌ يُسمَع، لناديت بالإقبال على مدرسة محمد.. ففيها الحل الذي يوصل إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولو كان جالساً في عُقر داره.
قلت: لعلّ هناك مَن يَسمع.